الحرب الروسية الأوكرانية وسقوط العولمة
الأستاذ الدكتور محمد وهبه، أستاذ في الجامعة اللبنانية

بيروت 09/4/2022
الحرب الروسية الأوكرانية وسقوط العولمة
منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في شباط 2022 تغيرت ملامح كبيرة في المنظومات الاقتصادية الدولية بعد ان تأثرت مجمل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والغذائية وسلاسل التوريد في العالم، وارتفعت بنتيجتها مجمل الأسعار وانخفضت القدرة الشرائية للأسر. منذ ذلك التاريخ بدأت التوقعات لنسب النمو الاقتصادي تتغير في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وأوكرانيا، والاقتصاد العالمي أصلاً كان يعاني من التضخم مما دفع بمنظمة التجارة العالمية في نهاية اذار 2022 إلى تخفيض توقعاتها للنمو بمقدار النصف تقريبا، من 4.7% إلى 2.5%، بسبب تأثير الحرب والسياسات الغريبة المرتبطة بهذه الحرب، بالرغم من أن أوكرانيا وروسيا تشكلان ما لا يزيد عن 2.5% من صادرات التجارة العالمية.
وكما هي عادة النظم الغربية، فاستخدمت العقوبات للضغط بالنسبة عبر آلياتها المالية والتي كان لها انعكاسات سلبية على الغرب نفسه، حيث وبنتيجة العقوبات على روسيا التي تنتج 10% من الطاقة العالمية منها 17% من الغاز الطبيعي بدأت المصارف المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا برفع الفوائد. وبالمقابل ترددت السياسات الأوروبية في استهداف قطاع الطاقة الروسية لمعاقبة موسكو، وهو الذي كشف مدى هشاشة إمدادات الطاقة للقارة الأوروبية، حيث اصبحت ألمانيا والعديد من الدول الأوروبية تعتمد، وفي إطار العولمة، بشكل كبير على واردات الغاز الطبيعي الروسي بعدما قررت إغلاق محطات الطاقة النووية والفحم في السنوات الأخيرة، الأمر الذي لم يؤد سوى إلى زيادة حاجة أوروبا للطاقة، وبالتالي الاعتماد على الغاز الروسي.
إن الأزمة الروسية الأوكرانية عمّقت الفجوة بين العرض والطلب، وهي مشكلة تواجهها الاقتصادات بسبب ارتفاع أسعار الطاقة. وتقديم الدعم للعائلات محدودة الدخل يبرر اتخاذ تدابير غير تقليدية للحد من الأثر التضخمي لارتفاع أسعار الوقود، مثل فرض الضرائب وتعليق اعتماد منهجية التسعير الهامشي بالنسبة لأسعار الكهرباء ومراقبة الأسعار، مما دفع الكثير من البلدان الى لملمة اقتصاداتها ووضع حدود تتنافى مع معايير منظمة التجارة العالمية.
فروسيا تمدّ القارة الأوروبية بالغاز الطبيعي بنسبة 37%، ومن الطبيعي ان تتأثر كافة القطاعات الاقتصادية:
- قطاعات الإنتاج التي تستخدم مستلزمات تشغيل من روسيا، مثل صناعة الطائرات، والصناعات الخشبية، وصناعة الكهرباء، وكل الصناعات التي تستخدم النفط والغاز الروسيَّين والفحم الروسي والنحاس والألومنيوم، وخصوصاً في دول، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا، وغيرها من الدول التي لن تستطيع تدبير بدائل سريعة عن الواردات الروسية.
- قطاع الزراعي، الذي يستخدم مستلزمات إنتاج قادمة من روسيا، مثل سماد البوتاسيوم والحبوب والزيوت وزيت دوار الشمس.
- قطاع النقل الجوي جراء إغلاق المجال الجوي الأوروبي أمام الرحلات القادمة من روسيا، وتلك الأوروبية التي تستخدم الأجواء الروسية، والتي قدّرتها بعض المصادر الاقتصادية، بتاريخ 19/3/2022، بنحو 37.0 مليون دولار أسبوعياً، أي ما يقارب 150.0 مليون دولار في الشهر الواحد.
- القطاع المالي والاستثمارات المالية الروسية في دول الاتحاد الأوروبي، والاستثمارات الأوروبية في الاقتصاد الروسي، والتي شملها الحظر والمقاطعة، الأمر الذي أدّى إلى انهيار أسعار تلك الأصول المالية، سواء بالنسبة إلى روسيا، أو الشركات والمؤسسات المالية الأوروبية المالكة لتلك الاستثمارات، وقيمتها بحدود 100 مليار يورو، منذ بداية الأزمة في 24/2/2022، حتى مرور الشهر الأول من الحرب في أوكرانيا.
- قطاعات الخدمات، وهي كلها معرَّضة للخسارة والانهيار، وتقارب 200.0 مليار يورو.
بصورة عامة، فإن التقدير المبدئي للخسائر الأوروبية، طوال فترة الحرب التي من المرجح أن تستمر بين ثلاثة أشهر وستة أشهر، تترواح ما بين 500 مليار يورو و800 مليار يورو. وإذا أضفنا وقف إمدادات الغاز الروسي فإن الرقم قد يتضاعف إلى أكثر من 1.5 تريليون دولار.
أتت الازمة بعد ازمة الجائحة كورونا، رغم ان فرنسا سجلت بعد التعافي من أزمة كورونا نموا اقتصاديا بلغ 7% خلال 2021 وانخفض بها معدل البطالة إلى 7% وهو رقم قياسي، وكان اقتصاد أميركا وفرنسا أفضل اقتصادين أداءً في العالم بعد كورونا. لكن لا يمكن القول ان العالم كان قد تخطى كليا اثار الجائحة، فالأزمة الأوكرانية اعادت خلط أوراق النمو من جديد. وكانت قد كشفت الجائحة كورونا عن تصدعات في الترابط الاقتصادي بين دول العالم، وتبعتها ارتدادات الحرب في أوكرانيا التي أدت الى أزمة كبيرة في الإمدادات الغذائية وأسواق السلع الأساسية، فمع اندلاع الحرب في أوكرانيا، شعر المستهلكون بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا من خلال ارتفاع أسعار الطاقة والمنتجات الغذائية جراء فرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا.
مما يشير الى عودة البلدان الى حدودها وسقوط العولمة خاصة مع حدوث اضطرابات في سلاسل التوريد جراء جائحة كورونا وما تلا ذلك من ارتفاع في التكاليف ونقص في المعروض، مما يشير إلى أن العالم يقترب من نقطة تحول نحو نظام عالمي متجدد تحكمه تحالفات جديدة وقواعد جديدة.
بالإضافة الى الانعكاسات السلبية على كافة القطاعات الإنتاجية والخدمية، فسوف تخسر دول الاتحاد الأوروبي صادراتها إلى روسيا، والتي بلغت قبل بداية الأزمة الأوكرانية نحو 200 مليار دولار. وفي ظلّ تباطؤ معدلات النمو، فإنّ أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة ستتفاقم. وفي ألمانيا، بلغ معدل التضخم، عشية الأزمة الأوكرانية، 5.2%، وفي بريطانيا 4.2%. بيد أنه بعد الأزمة، وإذا استمرت عدة شهور قليلة مقبلة، ومع الإجراءات الروسية المضادة والمتوقَّعة، فنحن إزاء معدلات للتضخم قد تزيد على 15% في كثير من دول الاتحاد الأوروبي.
الخسارة الأكبر، والتي لن تتحمّلها الاقتصادات الأوروبية، وإن بنِسَب متفاوتة بين دولة وأخرى، هي خسارة إمدادات الطاقة، التي تزيد على خمسة ملايين برميل يومياً، من النفط ومنتوجاته وقد تبيَّن من أحدث الإحصاءات الروسية أن دول الاتحاد الأوروبي استوردت من الغاز الروسي خلال شهر واحد، بعد الحرب في أوكرانيا، ما يساوي 10 مليارات يورو منذ 24/2/2022 حتى 20/3/2022، واستوردت أيضاً من النفط ما قيمته نحو 5 مليارات يورو، ومن الفحم ما يساوي 450 مليون يورو.
وإلى حين البحث عن بدائل بوجود التردد في تمويل النقص لدى بعض الدول المنتجة الكبرى، مثل السعودية والإمارات، ومن قبلهما فنزويلا وإيران، سيؤدي الأمر إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار تلك المنتوجات التي تمس العصب الحساس للمواطنين في هذه الدول الأوروبية، ومنها سوف ينتقل الارتفاع إلى قطاع النقل على نحو يؤدي إلى زيادة أسعار هائلة وواسعة في كل مستلزمات المعيشة، ومنها فواتير الكهرباء، ومنتوجات السلع المصنَّعة. ويقدَّر حجم هذه الخسارة على اقتصاد المواطنين في أوروبا بأكثر من مئتي مليار يورو خلال الشهور الثلاثة الأولى، الممتدة من بداية الحرب إلى نهاية أيار 2022. وربما يتضاعف الرقم في حال استمرّت الأزمة والعمليات الحربية ستةَ شهور.
الاقتصاد العالمي سينمو في العام 2022 على الرغم من الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، لكن تأثيرها سيكون ملموساً في جميع أنحاء العالم، وتعتمد درجة الضرر بشكل حاسم على المدة التي ستستغرقها الحرب، ومدى استمرارية اضطراب الأسواق وفيما إذا كانت صدمة مؤقتة أم أزمة دائمة.
من الواضح أن حظر النفط الروسي سيؤدي إلى عواقب وخيمة على السوق العالمية وعلى الدول الاوروبية بالتحديد، حيث لن تؤدي الزيادات في أسعار النفط إلى رفع سعر الوقود فحسب، بل إلى زيادة مجمل الأسعار، وسيزداد التضخم لأن الوقود والطاقة من التكاليف الأساسية في تصنيع ونقل البضائع، مما قد يؤدي اطر تضخمية مصحوبة بركود، بالإضافة الى أن ارتفاع التضخم قد يجبر البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة، لا سيما في أوروبا الوسطى وأمريكا اللاتينية والذي سيكون عبئاً إضافياً على تلك الاقتصادات، والتي ستؤدي الى اضطرابات قوية في الاقتصاد الدولي ستستمر لفترة زمنية طويلة في عدة مجالات أساسية منها :
- كمية العرض والاسعار في أسواق الطاقة،
- أسواق المواد الغذائية وخاصةً القمح والشعير والذرة والحبوب حيث تحتل روسيا المرتبة الأولى في تصدير القمح بمعدل 18% من مجمل الصادرات العالمية للقمح، كذلك تحتل أوكرانيا المركز الرابع عالميًا في هذا المجال بمعدل 11% من مجمل الصادرات العالمية علمًا أن انتاج روسيا وحدها من القمح وصل عام 2021 الى حدود 86 مليون طن.
- الأسمدة والكيماويات والمعادن حيث تعتبر روسيا من أبرز المنتجين لهذه المواد على الصعيد العالمي مما سيؤثر على أسعارها وزيادة منسوب التضخم عالميًا.
ومع ارتفاع وتيرة حرب المقاطعة سيؤدي تقليص روسيا لمعاملاتها التجارية القادمة بالدولار الأميركي أو اليورو الأوروبي، وتعزيز صيغة التعامل التجاري بالمقايضة، أو بالعملات المحلية المتبادلة بين دول ومراكز تجارية كبرى، مثل الصين والهند وروسيا وإيران وفنزويلا وبعض الدول في أميركا الجنوبية وفي أفريقيا، إلى استكمال حلقة تفكيك هيمنة الدولار على نظم المعاملات الدولية الذي يشكل حاليا نحو 60% من المدفوعات الدولية والاحتياطيات النقدية لدول العالم.
لا شك ان الحرب الروسية الأوكرانية ستفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، وستعيد صياغة جديدة للمسرحين الجيوسياسيي والجيواستراتيجي الدولي ولأعوام طويلة مقبلة، وقد لا تتضح الصورة الكاملة لبعض الآثار لسنوات طويلة، إلا أن هناك بالفعل علامات واضحة على أن الحرب سيكون لها انعكاسات جوهرية واهمها اعتماد روسيا لنظام SPFS بعد خروجها من نظام SWIFT المالي والذي بالإضافة الى انه قد يساهم في حصول بطء شديد في عمليات الاستيراد عالميًا فهو سيساهم في المزيد من ارتفاع أسعار السلع في أوروبا التي من المتوقع أن ترتفع فيها معدلات التضخم الى أرقام قياسية، ولكن والاهم قد تعيد هيكلة النظام المالي الدولي، والنظام المالي العالمي بأكمله، وربما الانتقال الى نظام تكتلات جديدة بديل للعولمة.